فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)}
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد هو آحاد أمته، وقال ابن عباس وابن جبير والحسن والقرظي وقتادة ومجاهد وابن زيد: {الفلق}: الصبح، كقوله تعالى: {فالق الإصباح} [الأنعام: 96] وقال ابن عباس أيضًا وجماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم: {الفلق}: جب في جهنم ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: {من شر ما خلق} يعم كل موجود له شر.
وقرأ عمرو بن عبيد وبعض المعتزلة القائلين: بأن الله لم يخلق الشر {من شرٍّ ما خلق} على النفي وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل، الله خالق كل شيء، واختلف الناس في: (الغاسق إذا وقب) فقال ابن عباس ومجاهد والحسن: (الغاسق): الليل و{وقب} معناه: أظلم ودخل على الناس، وقال الشاعر ابن قيس الرقيات: المديد:
إن هذا الليل قد غسقا ** واشتكيت الهم والأرقا

وقال محمد بن كعب: (الغاسق إذا وقب) النهار دخل في الليل، وقال ابن زيد عن العرب، (الغاسق) سقوط الثريا، وكانت الأسقام والطاعون تهيج عنده، وقال عليه السلام: «النجم هو الغاسق» فيحتمل أن يريد الثريا، وقال لعائشة وقد نظر إلى القمر: «تعوذي بالله {من شر غاسق إذا وقب}، فهذا هو»، وقال القتبي وغيره: هو البدر إذا دخل في ساهور فخسف، قال الزهري في {الغاسق إذا وقب}: الشمس إذا غربت، و{وقب} في كلام العرب: دخل، وقد قال ابن عباس في كتاب النقاش: {الغاسق إذا وقب}: ذكر الرجل، فهذا التعوذ في هذا التأويل نحو قوله عليه السلام وهو يعلم السائل التعوذ: «قل أعوذ بالله من شر سمعي وشر قلبي وشر بصري وشر لساني وشر منيي»، ذكر الحديث جماعة و{النفاثات في العقد} السواحر، ويقال إن الإشارة أولًا إلى بنات لبيد بن الأعصم اليهودي كن ساحرات وهن اللواتي سحرن مع أبيهم النبي صلى الله عليه وسلم وعقدن له إحدى عشرة عقدة، فأنزل الله تعالى إحدى عشرة آية بعد العقد، هي المعوذتان، فشفى الله النبي صلى الله عليه وسلم، والنفث شبه النفخ دون تفل ريق، وهذا النفث هو على عقد تعقد في خيوط ونحوها على اسم المسحور فيؤذى بذلك، وهذا الشأن في زمننا موجود شائع في صحراء المغرب، وحدثني ثقة أنه رأى عند بعضهم خيطًا أحمر قد عقد فيه عقد على فصلان فمنعت بذلك رضاع أمهاتها، فكان إذا حل جرى ذلك الفصيل إلى أمه في الحين فرضع أعاذنا الله من شر السحر والسحرة بقدرته.
وقرأ عبد الله بن القاسم والحسن وابن عمر: (النافثات في العقد)، وقوله تعالى: {ومن شر حاسد إذا حسد} قال قتادة: من شر عينه ونفسه، يريد بالنفس السعي الخبيث والإذاية كيف قدر لأنه عدو مجد ممتحن، وقال الشاعر:
كل عداوة قد ترجى إفاقتها ** إلا عداوة من عاداك من حسد

وعين الحاسد في الاغلب لاقعة نعوذ بالله من شرها ولا أعدمنا الله حسده.
و إذا إراد الله نشر فضيلة ** طويت اتاح لها لسان حسود

والحسد في الاثنتين اللتين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حسد مستحسن غير ضار».
وإنما هو باعث على خير وهذه السورة خمس آيات فقال بعض الحذاق وهي مراد الناس بقولهم للحاسد إذا نظر اليهم الخمس على عينيك وقد غلطت العامة في هذا فيشيرون في ذلك بالأصابع لكونها خمسة وأمال أبو عمرو {حاسد} والباقون بفتح الحاء، وقال الحسن بن الفضل ذكر الله تعالى الشر في هذه السورة ثم ختمها بالحسد ليظهر أنه أخس طبع. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} وفيها قولان:
أحدهما: مدنية رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة في آخرين.
والثاني: مكية رواه كريب عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعطاء، وعكرمة، وجابر.
والأول أصح، ويدل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر وهو مع عائشة، فنزلت عليه المعوذتان.
فذكر أهل التفسير في نزولهما: «أن غلامًا من اليهود كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل به اليهود حتى أخذ مُشَاطة رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعِدَّة أسنانٍ من مُشْطه، فأعطاها اليهود فسحروه فيها.
وكان الذي تولَّى ذلك لبيد بن أعصم اليهودي. ثم دسَّها في بئر لبني زريق، يقال لها: بئر ذروان.
ويقال: ذي أروان، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتشر شعر رأسه، وكان يرى أنه يأتي النساء وما يأتيهن، ويخيَّل إليه أنه يفعل الشيء، وما يفعله، فبينا هو ذات يوم نائم أتاه مَلَكان، فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال أحدهما للآخر: ما بال الرجل؟ قال: طُبَّ.
قال: وما طُبَّ؟ قال: سُحِر.
قال: ومن سَحَره؟ قال: لبيد بن أعصم.
قال: وبم طَبَّه؟ قال: بمُشْط ومُشَاطة.
قال: وأين هو؟ قال في جُفِّ طلعةٍ تحت راعوفة في بئر ذروان والجف: قشر الطلع.
والراعوفة: صخرة تترك في أسفل البئر إذا حفرت.
فإذا أرادوا تنقية البئر جلس المنقِّي عليها، فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عائشة أما شعرتِ أن الله أخبرني بدائي، ثم بعث عليًا، والزبير، وعمار بن ياسر، فنزحوا ماء تلك البئر، ثم رفعوا الصخرة، وأخرجوا الجُفَّ، وإذا فيه مُشَاطة رأسه، وأسنان مشطه، وإذا وتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبرة، فأنزل الله تعالى المعوذتين، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة.
ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خِفَّة حين انحلت العُقْدَةُ الأخيرة، وجعل جبريل عليه السلام يقول: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن حاسد وعين، والله يشفيك.
فقالوا يا رسول الله: أفلا نأخذ الخبيث فنقتله؟ فقال: أما أنا فقد شفاني الله، وأكره أن أُثير على الناس شرًا»
.
وقد أخرج البخاري ومسلم في (الصحيحين) من حديث عائشة حديث سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد بينا معنى {أعوذ} في أول كتابنا.
وفي {الفلق} ستة أقوال.
أحدها: أنه الصبح، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والقرظي، وابن زيد، واللغويون قالوا: ويقال: هذا أبين من فَلَق الصبح وَفَرَقَ الصبح.
والثاني: أنه الخَلْق، رواه الوالبي عن ابن عباس.
وكذلك قال الضحاك: الفَلَق: الخَلْق كلُّه.
والثالث: سِجْن في جهنم، روي عن ابن عباس أيضًا.
وقال وهب والسدي: جُبٌّ في جهنم.
وقال ابن السائب: وادٍ في جهنم.
والرابع: شجرة في النار، قاله عبد الله بن عمرو.
والخامس: أنه كُلُّ ما انفلق عن شيء كالصبح، والحَبُّ، والنَّوى، وغير ذلك.
قاله الحسن.
قال الزجاج: وإذا تأملت الخلق بَانَ لك أن أكثره عن انفلاق، كالأرض بالنبات، والسحاب بالمطر.
والسادس: أنه اسم من أسماء جهنم، قاله أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد الحبلي.
قوله تعالى: {من شر ما خلق} وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر: {خُلِق} بضم الخاء، وكسر اللام.
وفيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه عام، وهو الأظهر.
والثاني: أن شر ما خُلِق: إبليسُ وذُريته، قاله الحسن.
والثالث: جهنم، حكاه الماوردي.
وفي (الغاسق) أربعة أقوال.
أحدها: أنه القمر، روت عائشة قالت: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر، فقال: استعيذي بالله من شره فإنه الغاسق إذا وقب، رواه الترمذي، والنسائي في كتابيهما.
قال ابن قتيبة: ويقال: الغاسق: القمر إذا كسف فاسودَّ.
ومعنى {وقب} دخل في الكسوف.
والثاني: أنه النجم، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثالث: أنه الليل، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والقرظي، والفراء، وأبو عبيد، وابن قتيبة، والزجاج.
قال اللغويون: ومعنى {وقب} دخل في كل شيء فأظلم.
و(الغسق) الظلمة.
وقال الزجاج: الغاسق: البارد، فقيل لِلَّيل: غاسق، لأنه أبرد من النهار.
والرابع: أنه الثريا إذا سقطت، وكانت الأسقام، والطواعين تكثر عند وقوعها، وترتفع عند طلوعها، قاله ابن زيد.
فأما {النفاثات} فقال ابن قتيبة: هن السواحر ينفثن.
أي: يَتْفُلن إذا سحرن، ورَقَيْن.
قال الزجاج: يَتْفُلْنَ بلا ريق، كأنه نفح.
وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: تفسير نَفَثَ: نَفَخَ نفخًا ليس معه ريق، ومعنى تفل: نفخ نفخًا معه ريق.
قال ذو الرُّمَّة:
ومن جَوْفِ ماءٍ عَرْمَضُ الحَوْلِ فَوْقَهُ ** متى يَحْسُ منه مائِحُ القومِ يَتْفُلِ

وقد روى ابن أبي سُرَيج {النافثات} بألف قبل الفاء مع كسر الفاء وتخفيفها.
وقال بعض المفسرين: المراد بالنَّفَّاثات هاهنا: بنات لبيد بن أعصم اليهودي سحرن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ومن شر حاسد} يعني: اليهود حسدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكرنا حدَّ الحسد في [البقرة: 109] والحسد: أخس الطبائع.
وأولُ معصية عُصِيَ الله بها في السماء حَسَدُ إبليس لآدم، وفي الأرض حَسَدُ قابيلَ هَابيلَ. اهـ.

.قال القرطبي:

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} فيه تسع مسائل:
الأولى: روى النسائيّ عن عقبة بن عامر، قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكب، فوضعت يدي على قدمه، فقلت: أقرئني سورة هُودٍ أقرئني سورة يوسف. فقال لي: ولَنْ تَقرأ شيئًا أبلغ عند الله من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق}».
وعنه قال: «بينا أنا أسير مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بين الجحْفَة والأَبواءِ، إذ غشتنا ريح مظلمة شديدة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوّذ بـ: {أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق}، و{أَعُوذُ بِرَبِّ الناس}، ويقول: يا عقبة، تعوّذ بهما، فما تعوّذ متعوّذ بمثلهما. قال: وسمعته يقرأ بهما في الصلاة».
وروى النَّسائي عن عبد الله قال: «أصابنا طَشٌّ وظُلْمة، فانتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يَخْرج. ثم ذكر كلامًا معناه: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيُصلِّيَ بنا، فقال: قُلْ. فقلت: ما أقول؟ قال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد والمعوذتين حين تمسي، وحين تصبح ثلاثًا، يكفِك كل شيء».
وعن عقبة بن عامر الجُهَنِي قال: «قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: قُلْ. قلت: ما أقول؟ قال قل: {قُلْ هُوَ الله أحد} {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق} {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} فقرأهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لم يتعوّذ الناس بمثلهن، أو لا يتعوّذ الناس بمثلِهِن».
وفي حديث ابن عباس: «قل أَعوذ بِرب الفلقِ وقُلْ أَعوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، هاتين السورتين». وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى قرأ على نفسه بالمُعَوذَّتَيْن ويَنْفِثُ، فلما اشتدّ وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح عنه بيده، رجاءَ بركتها.
النَّفْث: النفخ ليس معه ريق.
الثانية: ثبت في الصحيحين من حديث عائشة: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سحره يهوديّ من يهود بني زُرَيْق، يقال له لَبِيدُ بن الأَعْصم، حتى يخيلُ إليه أنه كان يفعل الشيء ولا يفعله، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث- في غير الصحيح: سنة- ثم قال: يا عائشة، أُشْعرت، أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه. أتاني ملكان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رِجلي، فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي: ما شأن الرجل؟ قال: مَطْبوب.
قال ومَنْ طَبَّهُ؟ قال لَبيد بن الأَعصم.
قال في ماذا؟ قال: في مُشْطٍ ومُشاطة وجفّ طلعةٍ ذكر، تحت راعوفة في بئر ذي أَوْران. فجاء البئر واستخرجه»
انتهى الصحيح.
وقال ابن عباس: «أما شَعَرْتِ يا عائشة أن الله تعالى أخبرني بدائي» ثم بعث علِيًا والزبير وعمار بن ياسر، فنزحوا ماء تلك البئر كأنه نقاعة الحناء، ثم رفعوا الصخرة وهي الراعوفة صخرة تترك أسفل البئر يقوم عليها المائح، وأخرجوا الجُفّ، فإذا مُشَاطة رأس إنسان، وأسنان من مُشْط، وإذا وتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بالإبر، فأنزل الله تعالى هاتين السورتين، وهما إحدى عشرة آية على عدد تلك العُقْد، وأمر أن يُتَعَوَّذ بهما؛ فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد النبيّ صلى الله عليه وسلم خِفّة، حتى انحلت العقدة الأخيرة، فكأنما أُنشِط من عِقال، وقال: ليس به بأس.
وجعل جبريل يَرْقِي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: «باسم الله أَرْقِيك، من كل شيء يؤذيك، من شر حاسدٍ وعَيْن، والله يَشْفِيك».
فقالوا: يا رسول الله، ألا نقتل الخبيث.
فقال: «أمّا أنا فقد شفاني الله، وأكره أن أثيرَ على الناس شَرًّا»
وذكر القشيري في تفسيره أنه ورد في الصِّحاح: أن غلامًا من اليهود كان يخدُم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدسَّتْ إليه اليهود، ولم يزالوا به حتى أَخَذ مُشاطة رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم.
والمُشاطة (بضم الميم): ما يسقُط من الشعر عند المشط.
وأخذ عدّة من أسنان مُشْطه، فأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وكان الذي تولى ذلك لَبيدُ بن الأَعْصم اليهوديّ.
وذكر نحو ما تقدّم عن ابن عباس.
الثالثة: تقدّم في البقرة القول في السحر وحقيقته، وما ينشأ عنه من الآلام والمفاسد، وحكم الساحر؛ فلا معنى لإعادته.
الرابعة: قوله تعالى: {الفلق} اختُلف فيه؛ فقيل: سِجن في جَهنم؛ قاله ابن عباس.
وقال أُبَيُّ بن كعب: بيت في جهنم اذا فُتح صاح أهل النار من حره.
وقال الحُبُليّ أبو عبد الرحمن: هو اسم من أسماء جهنم.
وقال الكلبي: واد في جهنم.
وقال عبد الله بن عمر: شجرة في النار.
سعيد بن جبير: جُبُّ في النار.
النحاس: يقال لما اطمأنّ من الأرض فَلَق؛ فعلى هذا يصح هذا القول.
وقال جابر بن عبد الله والحسن وسعيد بن جبير أيضًا ومجاهد وقتادة والقُرَظِيّ وابن زيد: الفَلَق، الصُّبْح.
وقاله ابن عباس.
تقول العرب: هو أبين من فَلَقِ الصُّبْح وفرقَ الصبح.
وقال الشاعر:
يا ليلةً لم أَنمْهَا بِتُّ مُرْتَفِقًا ** أَرْعَى النجومَ إلى أَنْ نَوَّرَ الفَلقُ

وقيل: الفلق: الجبال والصخور تنفلق بالمياه؛ أي تتشقق.
وقيل: هو التفليق بين الجبال والصخور؛ لأنها تتشقق من خوف الله عز وجل.
قال زهير:
ما زِلْتَ أَرْمُقُهُم حتّى إذا هَبَطَتْ ** أيدِي الرِّكابِ بِهِمْ مِن راكِسٍ فَلَقَا

الراكس: بطن الوادي.
وكذلك هو في قول النابغة:
أَتانِي ودُونِي راكِسٌ فالضَّواجِعُ

والراكس أيضًا: الهادي، وهو الثور وسط البَيْدَر، تدور عليه الثّيران في الدِّياسة.
وقيل: الرحم تنفلق بالحيوان.
وقيل: إنه كل ما انفلق عن جميع ما خَلَق من الحيوان والصبحِ والحبّ والنَّوَى، وكل شيء من نبات وغيره؛ قاله الحسن وغيره.
قال الضحاك: الفَلقُ الخلْق كُلُّه؛ قال:
وَسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصًا رَبَّ الْفَلقْ ** سِرًّا وقدْ أَوَّنَ تَأْوِين العُقُقْ

قلت: هذا القول يشهد له الاشتقاق؛ فإن الفَلْق الشق.
فَلقْت الشيء فلقًا أي شققته.
والتفليق مثله.
يقال: فَلقته فانفلق وتَفَلَّق.
فكل ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحب ونَوًى وماء فهو فَلَق؛ قال الله تعالى: {فَالِقُ الإصباح} [الأنعام: 96] قال: {فَالِقُ الحب والنوى} [الأنعام: 95].
وقال ذو الرمّة يصف الثور الوَحْشِيّ:
حَتَّى إذَا ما انْجَلَى عن وجهِه فَلَقٌ ** هادِيهِ في أُخْرَيَاتِ اللَّيلِ مُنْتَصِبُ

يعني بالفلق هنا: الصبح بعينه.
والفلق أيضًا: المطمئن من الأرض بين الربْوتين، وجمعه؛ فُلْقان؛ مثل خَلَق وخُلْقان.
وربما قالوا: كان ذلك بفالق كذا وكذا؛ يريدون المكان المنحدر بين الربوتين.
والفلَق أيضًا مِقطرة السَّجان.
فأما الفِلْق (بالكسر): فالداهية والأمر العجب؛ تقول منه: أفلق الرجل وافتلق.
وشاعر مُفْلِق، وقد جاء بالفِلْق (أي بالداهية).
والفِلْق أيضًا: القضيب يُشَقُّ باثنين، فيعمل منه قَوْسان؛ يقال لكل واحدة منهما فِلْق.
وقولهم؛ جاء بعُلَقَ فُلَق؛ وهي الداهية؛ لا يُجرى مُجرَى عُمر.
يقال منه: أعلقت وأفلقت؛ أي جئت بعُلَق فُلَقَ.
ومرّ يفتلق في عدوِه؛ أي يأتي بالعجب من شدّته.
وقوله تعالى: {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} قيل: هو إبليس وذرّيته.
وقيل جهنم.
وقيل: هو عامّ؛ أي من شر كل ذي شر خلقه الله عز وجل.
الخامسة: قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} اختُلف فيه؛ فقيل: هو الليل.
والغَسَق: أوّل ظلمة الليل؛ يقال منه: غَسَق الليلُ يَغْسِق أي أظلم.
قال ابن قيس الرقيات:
إِنَّ هَذَا الليلَ قد غَسَقا ** واشْتكَيْتُ الهمَّ والأَرَقَا

وقال آخر:
يا طيفَ هِندٍ لَقَدْ أَبْقَيت لِي أَرَقًا ** إِذْ جِئتنا طارِقًا والليلُ قَدْ غَسَقَا

هذا قول ابن عباس والضحاك وقتادة والسُّدّيّ وغيرهم.
و{وَقَبَ} على هذا التفسير: أظلم؛ قاله ابن عباس.
والضحاك: دَخَلَ.
قتادة: ذَهَبَ.
يَمانُ بن رِئاب: سَكَن.
وقيل: نزل؛ يقال: وَقَب العذاب على الكافرين؛ نَزَل.
قال الشاعر:
وَقَبَ العذابُ عليهمُ فكَأَنَّهُمْ ** لَحِقتْهُمُ نارُ السَّمُومِ فأُحْصِدُوا

وقال الزجاج: قيل الليل غاسق لأنه أبرد من النهار.
والغاسق: البارد.
والغَسَق: البرد؛ ولأن في الليل تخرج السِّباع من آجامها، والهوام من أماكنها، وينبعث أهل الشر على العيث والفساد.
وقيل: الغاسق: الثُّريَّا؛ وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين، وإذا طلعت ارتفع ذلك؛ قاله عبد الرحمن بن زيد.
وقيل: هو الشمس إذا غربت؛ قاله ابن شهاب.
وقيل: هو القمر.
قال القُتَبِيّ: {إِذَا وَقَبَ} القمر: إذا دخل في ساهوره، وهو كالغلاف له، وذلك إذا خُسِفَ به.
وكل شيء أسود فهو غَسَق.
وقال قتادة: {إِذا وَقَب} إذا غابَ.
وهو أصح؛ لأن في الترمذيّ عن عائشة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر، فقال: «يا عائشة، استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وَقَبَ» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وقال أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي في تأويل هذا الحديث: وذلك أن أهل الريبَ يَتَحينون وَجبة القمر.
وأنشد:
أراحنِي اللَّهُ مِن أشياءَ أَكرهُها ** منها العجوزُ ومنها الكلبُ والقمرُ

هذا يبوحُ وهذا يُستضاء بِه ** وهذه ضِمْرِزٌ قَوَّامَةُ السَّحَرِ

وقيل: الغاسق: الحية إذا لدغت.
وكأن الغاسق نابُها؛ لأن السم يغسق منه؛ أي يسيل.
ووقب نابها: إذا دخل في اللدِيغ.
وقيل: الغاسق: كل هاجم يضر، كائنًا ما كان؛ من قولهم: غسقتِ القرحة: إذا جرى صديدُها.
السادسة: قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد} يعني الساحرات اللائي ينفُثْن في عُقَد الخيط حين يَرْقِينَ عليها.
شبه النفخ كما يعمل من يرقِي.
قال الشاعر:
أَعُوذُ بِربِّي مِن النَّافِثَا ** تِ في عِضهِ العاضِهِ المُعْضِه

وقال مُتَمِّم بن نُوَيْرة:
نَفَثْتَ في الخيطِ شَبِيهَ الرُّقَى ** مِن خشية الجِنةِ والحاسِدِ

وقال عنترة:
فإنْ يَبْرَأْ فلَمْ أَنْفُثْ عَليْهِ ** وإنْ يُفْقَدْ فَحُق لَهُ الفُقُودُ

السابعة: روى النَّسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عَقَد عُقدة ثم نَفَثَ فيها، فقد سَحَر، ومن سحر فقد أَشْرَك، ومَنْ تَعَلَّق شيئًا وُكِل إليه». واختلِف في النفْث عند الرُّقَى، فمنعه قوم، وأجازه آخرون.
قال عكرمة: لا ينبغي للراقي أن ينفُث، ولا يمسح ولا يعقِد.
قال إبراهيم: كانوا يكرهون النفث في الرُّقَى.
وقال بعضهم: دخلت على الضحاك وهو وجِع، فقلت: ألا أُعَوِّذَك يا أبا محمد؟ قال: بلى، ولكن لا تنفث؛ فعوّذته بالمعوذتين.
وقال ابن جريج قلت لعطاء: القرآن يُنفَخ به أو يُنْفَثُ؟ قال: لا شيء من ذلك ولكن تقرؤه هكذا. ثم قال بعد: انفُثِ إن شئت.
وسئل محمد بن سِيرين عن الرُّقية يُنْفث فيها، فقال: لا أعلم بها بأسًا، وإذا اختلفوا فالحاكم بينهم السنة.
روت عائشة: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينفِث في الرُّقية»؛ رواه الأئمة، وقد ذكرناه أوّل السورة وفي (سُبْحان).
وعن محمد بن حاطب أن يده احترقت فأتت به أمّه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجعل ينفُث عليها ويتكلم بكلام؛ زعم أنه لم يحفظه.
وقال محمد بن الأشعث: ذُهِب بي إلى عائشة رضي الله عنها وفي عينيّ سوء، فرقَتْنِي ونَفَثَت.
وأما ما رُوي عن عكرمة من قوله: لا ينبغي للراقي أن ينفُث؛ فكأنه ذهب فيه إلى أن الله تعالى جعل النفْث في العُقَد مما يستعاذ به، فلا يكون بنفسه عُوذة.
وليس هذا هكذا؛ لأن النفث في العُقَد إذا كان مذمومًا لم يجب أن يكون النفث بلا عُقد مذمومًا.
ولأن النفث في العُقَد إنما أريد به السحر المضِرّ بالأرواح، وهذا النفث لاستصلاح الأبدان، فلا يقاس ما ينفع بما يضر.
وأما كراهة عكرمة المسحَ فخلاف السنة. قال علي رضي الله عنه: اشتكيت، فدخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: اللهمَّ إنْ كان أجلي قد حَضَرَ فأرِحنِي، وإن كان متأخرًا فاشفني وعافني، وإن كان بلاء فصبرني.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كيف قلت»؟ فقلت له.
فَمَسحني بيده، ثم قال: «اللهم اشْفِه» فما عاد ذلك الوجع بعد.
وقرأ عبد الله بن عمرو وعبد الرحمن بن سابط وعيسى بن عمر ورويس عن يعقوب {ومِن شر النافِثاتِ} في وزن (فاعلات).
ورُوِيت عن عبد الله بن القاسم مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. وروي أن نساء سحرن النبيّ صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة؛ فأنزل الله المعوذتين إحدى عشرة آية.
قال ابن زيد: كنّ من اليهود؛ يعني السواحر المذكورات.
وقيل: هنّ بنات لَبِيد بن الأعصم.
الثامنة: قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} قد تقدم في سورة (النساء) معنى الحسد، وأنه تمني زوالِ نعمة المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها.
والمنافسة هي تمني مثلها وإن لم تزل، فالحسدُ شرٌّ مذموم. والمنافسة مباحة وهي الغِبطة.
وقد روي: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن يَغْبِطُ، والمنافق يَحْسُد» وفي الصحيحين: «لا حسَد إلا في اثنتين» يريد لا غِبْطَة.
وقد مضى في سورة (النساء) والحمد لله.
قلت: قال العلماء: الحاسد لا يضر إلا إذا ظهر حسده بفعل أو قول، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود، فيَتْبَع مساوئه ويطلب عَثَراته.
قال صلى الله عليه وسلم: «إِذا حَسَدت فلا تَبْغِ...» الحديث.
وقد تقدم.
والحسد أوّل ذنب عُصِي الله به في السماء، وأول ذنب عُصِي به في الأرض، فحسَدَ إبليس آدَمَ، وحسد قابيلُ هابيلَ.
والحاسد ممقوت مبْغوض مطرود ملعون.
ولقد أحسن من قال:
قل للحسود إذا تَنَفَّس طَعْنةً ** يا ظالمًا وكأنهُ مَظْلُومُ

التاسعة: هذه سورة دالة على أن الله سبحانه خالق كل شر، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتعوّذ من جميع الشرور.
فقال: {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ}.
وجعل خاتمة ذلك الحسد، تنبيهًا على عِظمه، وكثرة ضرره، والحاسد عدوّ نعمة الله.
قال بعض الحكماء: بارزَ الحاسد ربه من خمسة أوجه:
أحدها: أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره.
وثانيها: أنه ساخط لقسمة ربه، كأنه يقول: لم قسمت هذه القسمة؟.
وثالثها: أنه ضادَّ فعل الله، أي إن فضل الله يؤتِيه من يشاء، وهو يبخَل بفضل الله.
ورابعها: أنه خذل أولياء الله، أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم.
وخامسها: أنه أعان عدوّه إبليس.
وقيل: الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة، ولا ينال عند الملائكة إلا لَعنة وبغضاء، ولا ينال في الخلوة إلا جَزَعًا وغمًا، ولا ينال في الآخرة إلا حُزْنًا واحتراقًا، ولا ينال من الله إلا بعدًا ومقتًا.
ورُوي: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يُستجاب دعاؤهم: آكل الحرام، ومُكثِر الغِيبة، ومن كان في قلبه غِلُّ أو حسد للمسلمين» والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.